فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (59):

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أي أصلحهم بعدّتهم من الزاد وما يحتاج إليه المسافر وأوْقَر ركائبَهم بما جاءوا له من المِيرة وقرئ بكسر الجيم {قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} لم يقل بأخيكم مبالغةً في إظهار عدم معرفتِه لهم ولعله عليه السلام إنما قاله لِما قيل من أنهم سألوه عليه السلام جَملاً زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به لا لما قيل من أنه لما رأَوْه وكلموه بالعبرية قال لهم: من أنتم فإني أنكركم؟ فقالوا له: نحن قومٌ من أهل الشام رعاةٌ أصابنا الجَهدُ فجئنا نمتار، فقال لهم: لعلكم جئتم عُيوناً؟ فقالوا: معاذ الله نحن إخوةٌ بنو أبٍ واحد وهو شيخٌ كبيرٌ صدّيق نبيٌّ من الأنبياء اسمُه يعقوبُ، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحدٌ، فقال: كم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة، قال: فأين الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلّى به عن الهالك، قال: فمن يشهدُ لكم أنكم لستم عيوناً وأن ما تقولون حقٌ؟ قالوا: نحن ببلاد لا يعرِفنا فيها أحد فيشهدَ لنا، قال: فدعُوا بعضَكم عندي رهينةً وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالةً من أبيكم حتى أصدِّقَكم، فاقترعوا فأصاب القرعةُ شمعونَ فخلّفوه عنده... إذ لا يساعده ورودُ الأمر بالإتيان به عند التجهيزِ ولا الحثُّ عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسانُ في الإنزال ولا الاقتصارُ على منع الكيل على تقدير عدمِ الإتيان به ولا جعلُ بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعِهم ولا عِدَتُهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلُهم عند أبيهم إرسالَ أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالةِ على أن استبقاء شمعونَ لو وقع لكان ذلك طامةً ينسى عندها كل قيل وقال.
{أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أُتمُّه لكم، وإيثارُ صيغة الاستقبالِ مع كون هذا الكلامِ بعد التجهيز للدِلالة على أن ذلك عادةٌ له مستمرَّة {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} جملة حالية أي ألا ترون أني أوفي الكيلَ لكم إيفاءً مستمراً والحالُ أني في غاية الإحسانِ في إنزالكم وضيافتِكم وقد كان الأمرَ كذلك، وتخصيصُ الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطابِ في أثنائه، وأما الإحسانُ في الإنزال فقد كان مستمراً فيما سبق ولحِق ولذلك أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ ولم يقل عليه السلام بطريق الامتنانِ بل لحثّهم على تحقيق ما أمرهم به، والاقتصارُ في الكيل على ذكر الإيفاءِ لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجبِ العدل، وأما الضيافةُ فليس للناس فيها حقٌّ فخصهم في ذلك بما شاء.

.تفسير الآيات (60- 63):

{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)}
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} {من بعدُ} فضلاً عن إيفائه {وَلاَ تَقْرَبُونِ} بدخول بلادي فضلاً عن الإحسان في الإنزال والضيافةِ وهو إما نهيٌ أو نفيٌ معطوفٌ على محل الجزاءِ، وفيه دليلٌ على أنهم كانوا على نية الامتيازِ مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوماً له عليه السلام {قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} أي سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده ونجتهد في ذلك، وفيه تنبيهٌ على عزة المطلبِ وصعوبةِ مناله {وَإِنَّا لفاعلون} ذلك غيرَ مفرِّطين فيه ولا متوانين أو لقادرون عليه لا تتعانى به.
{وَقَالَ} يوسف {لِفِتْيَانِهِ} غلمانه الكيالين جمع فتى وقرئ {لفِتيته} وهي جمعُ قلةٍ له {اجعلوا بضاعتهم فِي رِحَالِهِمْ} فإنه وكّل بكل رجل رجلاً يعبِّىء فيه بضاعتَهم التي شرَوا بها الطعامَ وكانت نعالاً وأدَماً وإنما فعله عليه السلام تفضّلاً عليهم وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجِعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيه كما يُؤذن به قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} أي يعرِفون حقَّ ردِّها والتكرم في ذلك أو لكي يعرِفوها وهو ظاهرُ التعلق بقوله: {إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} فإن معرفتَهم لها مقيّدةٌ بالرجوع وتفريغِ الأوعية قطعاً، وأما معرفةُ حقِّ التكرم في ردها فهي وإن كانت في ذاتها غيرَ مقيدةٍ بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قُيّدت به {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} حسبما أمرتهم به فإن التفضلَ عليهم بإعطاء البدلين ولاسيما عند إعوازِ البِضاعةِ من أقوى الدواعي إلى الرجوع، وما قيل إنما فعله عليه السلام لما لم يرَ من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً فكلامٌ حقٌّ في نفسه ولكن يأباه التعليلُ المذكور، وأما أن عِلّية الجعل المذكورِ للرجوع من حيث أن ديانتَهم تحمِلُهم على رد البضاعةِ لأنهم لا يستحِلّون إمساكها فمدارُه حُسبانُهم أنها بقِيت في رحالهم نسياناً وظاهرٌ أن ذلك مما لا يخطر ببال أحد أصلاً فإن هيئة التعبيةِ تنادي بأن ذلك بطريق التفضّل، ألا يرى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلاً على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبراً.
{فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ} قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع {قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} أي فيما بعد، وفيه ما لا يخفى من الدلالة على كون الامتيار مرةً بعد مرة معهوداً فيما بينهم وبينه عليه السلام {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} بنيامين إلى مصر وفيه إيذانٌ بأن مدارَ المنع عدمُ كونِه معهم {نَكْتَلْ} بسببه من الطعام ما نشاء. وقرأ حمزةُ والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ لكونه سبباً للاكتيال أو يكتلْ لنفسه مع اكتيالنا {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} من أن يصيبَه مكروهٌ.

.تفسير الآيات (64- 65):

{قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}
{قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} يوسف {مِن قَبْلُ} وقد قلتم في حقه أيضاً ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوّض الأمر إلى الله {فالله خَيْرٌ حافظا} وقرئ {حِفظاً}، وانتصابُهما على التمييز، والحالية على القراءة الأولى توهم تقيّد الخيريةِ بتلك الحالة {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمعَ عليّ مصيبتين، وهذا كما ترى ميلٌ منه عليه السلام إلى الإذن والإرسالِ لما رأى فيه من المصلحة.
{وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} أي تفضّلاً وقد علموا ذلك بما مر من دَلالة الحال وقرئ بنقل حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء كما قيل في قيل وكيل {قَالُواْ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: ماذا قالوا حينذ؟ فقيل: قالوا لأبيهم ولعله كان حاضراً عند الفتح: {يأَبَانَا مَا نَبْغِى} إذا فُسّر البغيُ بالطلب فما إما استفهاميةٌ منصوبةٌ به فالمعنى ماذا نبتغي وراء ما وصفنا لك من إحسان الملِك إلينا وكرمِه الداعي إلى امتثال أمرِه والمراجعةِ إليه في الحوايج وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له: إنا قدِمنا على خير رجلٍ أنزلنا وأكرَمنا كرامةً لو كان رجلاً من آل يعقوبَ ما أكرمْنا كرامتَه، وقوله تعالى: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} جملةٌ مستأنفةٌ موضِّحةٌ لما دل عليه الإنكارُ من بلوغ اللطفِ غايتَه كأنهم قالوا: كيف لا وهذه بضاعتُنا ردّها إلينا تفضلاً من حيث لا ندري بعد ما منّ عليها من المنن العظامِ هل من مزيد على هذا فنطلبَه؟ ولم يريدوا به الاكتفاءَ بذلك مطلقاً أو التقاعدَ عن طلب نظائرِه بل أرادوا الاكتفاءَ به في استيجاب الامتثالِ لأمره والالتجاءِ إليه في استجلاب المزيدِ كما أشرنا إليه وقوله تعالى: {رُدَّتْ إِلَيْنَا} حالٌ من بضاعتُنا والعامل معنى الإشارةِ وإيثار صيغةِ البناءِ للمفعول للإيذان بكمال الإحسانِ الناشىءِ عن كمال الإخفاءِ المفهومِ من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعُروا به ولا بفاعله، وقوله عز وجل: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نجلُب إليهم الطعامَ من عند الملكِ، معطوفٌ على مقدَّر ينسحب عليه ردُّ البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} من المكاره حسبما وعدْنا فما يصيبه من مكروه {وَنَزْدَادُ} أي بواسطته، ولذلك وُسّط الإخبارُ بحفظه بين الأصلِ والمزيد {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي وُسْقَ بعيرٍ زائداً على أوساق أباعِرِنا على قضية التقسيط.
{ذلك} أي ما يحمِله أباعرُنا {كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي مكيلٌ قليلٌ لا يقوم بأَوْدنا فهو استئنافٌ، وقيل: تعليل لما سبق، كأنه قيل: أيُّ حاجة إلى الازدياد؟ فقيل ما قيل، أو ذلك الكيلُ الزائد شيءٌ قليلٌ لا يضايقنا فيه الملِكُ أو سهلٌ عليه لا يتعاظمه أو أيُّ مطلب نطلُب من مهماتنا، والجملةُ الواقعة بعده توضيحٌ وبيانٌ لما يُشعِرُ به الإنكارُ من كونهم فائزين ببعض المطالبِ أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا: بضاعتُنا حاضرةٌ فنستظهر بها ونمير أهلَنا ونحفظ أخانا فما يصيبه شيءٌ من المكاره ونزداد بسببه غيرَ ما نكتاله لأنفسنا كيلَ بعير فأيَّ شيء نبتغي وراءَ هذه المباغي، وقرئ {ما تبغي} على خطاب يعقوبَ عليه السلام أي أيَّ شيء تبغي وراء هذه المباغي المشتملةِ على سلامة أخينا وسَعة ذاتِ أيدينا أو وراءَ ما فعل بنا الملكُ من الإحسان داعياً إلى التوجّه إليه، والجملةُ الاستئنافيةُ موضحةٌ لذلك أو أيَّ شيء تبغي شاهداً على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه، والجملةُ المذكورةُ عبارةٌ عن الشاهد المدلولِ عليه بفحوى الإنكارِ.
وإما نافية فالمعنى ما نبغي شيئاً غيرَ ما رأينا من إحسان الملِك في وجوب المراجعةِ إليه، أو ما نبغي غيرَ هذه المباغي، وقيل: ما نطلب منك بضاعةً أخرى والجملة المستأنفةُ تعليلٌ له. وأما إذا فُسِّر البغيُ بمجاوزة الحدِّ فما نافيةٌ فقط والمعنى ما نبغي في القول وما نتزيّد فيما وصفْنا من إحسان الملك إلينا وكرمِه الموجبِ لما ذكر، والجملةُ المستأنفةُ لبيان ما ادّعَوْا من عدم البغي، وقوله: ونمير أهلَنا عطفٌ على ما نبغي أي ما نبغي فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيلِ أمثالِه من مَيْر أهلِنا وحفظِ أخينا فإن ذلك أهونُ شيء بواسطة إحسانِه، وقد جوز أن يكون كلاماً مبتدأً أي جملةً اعتراضيةً تذييليةً على معنى وينبغي أن نميرَ أهلَنا، وشبّه ذلك بقولك: سعَيْتُ في حاجة فلان ويجب أن أسعى. وأنت خبيرٌ بأن شأن الجملِ التذييلية أن تكون مؤكّدةً لمضمون مصدرٍ ومقرِّرةً له كما في المثال المذكورِ، وقولِك: فلانٌ ينطِق بالحق فالحقُّ أبلجُ، وأن قوله: ونمير الخ، وإن ساعدَنا في حمله على معنى ينبغي أن نمير أهلَنا بمعزل من ذلك أو ما نبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا، والجملُ إلى آخرها تفصيلٌ وبيانٌ لعدم بغيهم وإصابةِ رأيهم، أي بضاعتُنا حاضرةٌ نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت فتأمل.

.تفسير الآية رقم (66):

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} بعد ما عاينْتُ منكم ما عاينت {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله} أي ما أتوثق به من جهة الله عز وجل، وإنما جعله مَوثِقاً منه تعالى لأن تأكيدَ العهود به مأذونٌ فيه من جهته تعالى فهو إذن منه عز وجل {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جوابُ القسم إذ المعنى حتى تحلِفوا بالله لتأتنني به {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلا أن تُغلبوا فلا تطيقوا به أو إلا أن تهلِكوا وأصلُه من إحاطة العدوِّ فإن مَنْ أحاط به العدوُّ فقد هلك غالباً وهو استئناءٌ من أعم الأحوال أو أعمِّ العلل على تأويل الكلامِ بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتُنني به ولا تمتنِعُنَّ منه في حال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا حالَ الإحاطة بكم، ونظيرُه قولُهم: أقسمت عليك لَما فعلْتَ وإلا فعلتَ أي ما أريد منك إلا فعلَك، وقد جُوز الأولُ بلا تأويل أيضاً أي لتأتُنني به على كل حالٍ إلا حال الإحاطةِ بكم. وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيانُ به من الأفعال الممتدة الشاملةِ للأحوال على سبيل المعيةِ كما في قولك: لألزَمنّك إلا أن تُعطِيني حقي، ولم يكن عليه السلام يريد مقارنته على سبيل البدلِ لما عدا الحالِ المستثناة كما إذا قلت: صَلِّ إلا أن تكون محدِثاً بل مجرد تحققِه ووقوعِه من غير إخلال به كما في قولك: لأحُجنَّ العامَ إلا أن أُحصر فإن مرادَك إنما هو الإخبار بعدم منعِ ما سوى حالِ الإحصار عن الحج لا الإخبارُ بمقارنته لتلك الأحوالِ على سبيل البدلِ كما هو مرادُك في مثال الصلاة كأن اعتبارَ الأحوالِ معه من حيث عدمُ منعها منه، فآل المعنى إلى التأويل المذكور {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} عهدهم من الله حسبما أراد يعقوبُ عليه السلام {قَالَ الله على مَا نَقُولُ} أي على ما قلنا في أثناء طلب الموْثِق وإيتائه من الجانبين. وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ لاستحضار صورتِه المؤدّي أي تثبتهم ومحافظتِهم على تذكّره ومراقبتِه {وَكِيلٌ} مطلعٌ رقيبٌ يريد به عرضَ ثقتِه بالله تعالى وحثَّهم على مراعاة ميثاقهم.

.تفسير الآية رقم (67):

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}
{وَقَالَ} ناصحاً لهم لمّا أزمع على إرسالهم جميعاً {الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ} مصر {مِن بَابٍ وَاحِدٍ} نهاهم عن ذلك حِذاراً من إصابة العين، فإنهم كانوا ذوي جمالٍ وشارةٍ حسنة وقد كانوا تجمّلوا في هذه الكرّة أكثرَ مما في المرة الأولى وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملِك بخلاف النَّوْبة الأولى فكانوا مَئِنّةً لدنوّ كل ناظر وطُموح كل طامح، وإصابةُ مُعْين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما يُنكر وقد ورد عنه عليه السلام: «إن العينَ حق» وعنه عليه السلام: «إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القِدْرَ» وقد كان عليه السلام يعوّذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عين لامّة» وكان عليه السلام يقول: «كان أبوكما يعوّذ بها إسماعيلَ وإسحاقَ عليهم السلام» رواه البخاري في صحيحه وقد شهدت بذلك التجارِبُ.
ولمّا لم يكن عدمُ الدخول من باب واحد مستلزماً للدخول من أبواب متفرّقة وكان في دخولهم من بابين أو ثلاثةٍ بعضُ ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماعٍ مصحِّحٍ لوقوع المحذورِ قال: {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} بياناً لِما المرادُ بالنهي وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزماً له إظهاراً لكمال العنايةِ وإيذاناً بأنه المرادُ بالأمر المذكور لا تحقيقاً لشيء آخر {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ} أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري {مّنَ الله مِن شَىْء} أي شيئاً مما قضى عليكم فإن الحذرَ لا يمنع القدَر ولم يرد به عليه السلام إلغاءَ الحذر بالمرة كيف لا وقد قال عز قائلاً: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} وقال: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} بل أراد بيانَ أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المرادَ لا محالة بل هو تديبرٌ في الجملة وإنما التأثيرُ وترتُّبُ المنفعةِ عليه من العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانةٌ بالله تعالى وهربٌ منه إليه.
{إِنِ الحكم} مطلقاً {أَلاَ لِلَّهِ} لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء {عَلَيْهِ} لا على أحد سواه {تَوَكَّلْتُ} في كل ما آتي وأذر، وفيه دَلالةٌ على أن ترتيبَ الأسباب غيرُ مُخلَ بالتوكل {وَعَلَيْهِ} دون غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} جُمع بين الحرْفين في عطف الجملةِ على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيَّداً بالواو عطف فعلٍ غيرِه من تخصيص التوكل بالله عز وجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعلِه لكونه نبياً لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولاً أولياً وفيه ما لا يخفى من حسن هدايتِهم وإرشادِهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عز وجل غيرَ مغترّين بما وصاهم من التدبير.